القانون رقم 131 لسنة 1948
الوقائع المصرية – العدد 108 مكرر أ – في 29 يوليه سنة 1948
بإصدار القانون المدني مذكرة إيضاحية
النص النهائي
المذكرة الإيضاحية
نظرة في مشروع تنقيح القانون المدني:
تنقيح القانون المدني المصري تنقيحاً شاملاً ضرورة تفرضها الظروف التي وضع فيها هذا القانون ويقتضيها تقدم القوانين الحديثة.
وقد يعترض البعض بأن القانون المدني المصري ليس في حاجة إلى تنقيح بل يكفي أن يكمل ببعض النصوص حتى يصبح صالحاً صلاحية تامة للتطبيق في عصرنا الحاضر، وقد يعترض من جهة أخرى بأنه حتى لو سلم أن القانون المدني في حاجة إلى تنقيح شامل إلا أنه يخشى أن تكون أحداث الحرب الأخيرة من شأنها أن تغير معالم الحضارة الإنسانية بما لا نحسه في الوقت الحاضر فإذا تكشفت الأمور بعد ذلك، تبين أن مشروع التنقيح هو نفسه في حاجة إلى تنقيح.
أما الاعتراض الأول فيكفي في الرد عليه استعراض عيوب التقنين المدني الحالي وقد سبق تلخيص هذه العيوب في مقال نشر بمناسبة العيد الخمسيني للمحاكم الوطنية في العبارات الآتية:
يمكن القول أن تقنيننا المدني فيه نقص، ثم فيه فضول، وهو غامض حيث يجب البيان، مقتضب حيث تجب الإفاضة، ثم هو يسترسل في التافه من الأمر فيعنى به عناية لا تتفق مع أهميته المحدودة. يقلد التقنين الفرنسي تقليداً أعمى فينقل كثيراً من عيوبه، وهو بعد متناقض في نواح مختلفة ويضم إلى هذا التناقض أخطاء معيبة.
أما النقص فيرجع معظمه إلى قصور تقنيننا عن مجاراة التقدم العظيم الذي قطع مراحله علم القانون في العصر الحاضر فهو منقول عن التقنين الفرنسي، والتقنين الفرنسي وضع في أول القرن التاسع عشر فلا يزال أمام تقنيننا حتى يصبح متمشياً مع عصره أن يقطع هذه المرحلة الطويلة التي قطعها علم القانون في قرن وثلث قرن، وهذه أجيال طويلة ارتقى فيها القانون ارتقاء لم يكن أحد يتوقعه.
وهناك مسائل كثيرة نحن في حاجة إلى أن نأخذها لا من التقنين الفرنسي العتيق بل من التقنينات الحديثة حيث نشهد أحدث النظريات القانونية مطبقة تطبيقاً تشريعياً محكماً. فهناك نظريات عامة قد استقرت في القانون وأصبحت تراثاً لجميع الأمم لا نجد لها أثراً عندنا أو نجد أثرها ناقصاً مقتضبا، فنظرية سوء استعمال الحق ونظرية عامة للغبن تتناول كل نواحي القانون، وقانون للجمعيات والمنشآت والأشخاص المعنوية بوجه عام، وتشريع للعمل ونظام لعقد التأمين وعقود الاحتكار والمنافع العامة ونظرية للنيابة في التعاقد، وتنظيم الملكية على الشيوع، والاعتراف بحوالة الدين أسوة بحوالة الحق، وإقرار الإرادة المنفردة مصدراً للالتزام، والاعتراف بالعقود المجردة وبعقود الإذعان ……….. كل هذه نظريات لا حظ لتقنيننا منها، وهي لازمة لا يجوز إغفالها في تشريع حديث …………. هذا إلى أن تقنيننا في موضوع من أهم موضوعات القانون هو موضوع العقد، وفي مسألة من أدق مسائل هذا الموضوع هي مسألة تكوين العقد، نراه صامتاً صمتاً مدهشاً لا يفسره إلا تقليد أعمى للتقنين الفرنسي، وترسم دقيق من تشريعنا لخطى المشرع الفرنسي، حتى في المزالق التي وقع فيها.
بقي الرد على الاعتراض الآخر، وهو يرمي إلى تأخير التنقيح حتى يتبين أثر الحرب الأخيرة في تطور مدنية البشر. وليس هناك محل للتخوف من هذه الناحية، فإن الحرب مهما عظم أثرها لا تغير تغييراً جوهرياً في المبادئ الفنية للقانون المدني.
قد تغير الحرب من نظم الحكم ومن النظم الاقتصادية والاجتماعية، ولكنها لا تغير من أصول الصياغة القانونية. وإذا كان القانون كما يقول Geny الفقيه الفرنسي المعروف، علماً وصياغة، وكانت الصياغة هي العنصر الأساسي الذي يكسب القانون ذاتيته، أمكن الاطمئنان إلى استقرار النظم القانونية. وتكفي الإشارة في هذا الصدد إلى أن العالم في تاريخه الحديث قد شهد ثورتين من أشد الثورات عنفاً وأبعدها أثراً. الثورة الأولى هي الثورة الفرنسية في أخر القرن الثامن عشر، وقد قلبت نظم الحكم رأساً على عقب، ومع ذلك فإن التقنين الفرنسي الذي أعقب هذه الثورة لم يكن إلا رجوعاً إلى قانون الماضي، قانون ما قبل الثورة، وبقي هذا التقنين طوال القرن التاسع عشر ولا يزال باقياً إلى اليوم، لم يستقر الرأي بعد على تنقيحه. والثورة الأخرى هي الثورة الروسية، شبت في القرن العشرين ولم تكن أقل تأثيراً في النظم العالمية من الثورة الفرنسية، ومع ذلك نرى التقنين المدني السوفييتي محتفظاً بالصياغة المدنية المعروفة. وهناك التقنين الألماني، وهو آية من آيات الفن والعلم، والتقنين السويسري وهو مثل عال من مثل التشريع الديمقراطي، قد كانا سابقين للحرب الكبرى التي نشبت في أوائل هذا القرن، وبقيا بعد هذه الحرب دون تغيير، وقد شهدا حرباً ثانية أشد هولا من الأولى، وسيبقيان بعدها كما هما، دون أن يلحقهما تغيير جوهري. وكل ما يمكن أن يحسب حسابه في هذا الصدد هو ما يتوقع من تغلب النزعة التي تفرض على العالم قسطاً أوفر من العدالة الاجتماعية. على أن المشروع في هذه النزعة يماشي عصره، غير مقصر ولا متخلف. فتنقيح التقنين المدني تنقيحاً شاملاً جامعاً هو إذن ضرورة تنبه لها المسئولون من رجال القانون في مصر منذ زمن طويل.
ويكفي في هذه النظرة العامة أن تستعرض المصادر التي استند إليها المشروع، ثم يذكر كيف رتبت أحكامه. وما وجوه التنقيح التي حققها. وما هي اتجاهاته العامة.
أما عن المصادر التي استند إليها المشروع، فلم يكن هناك مجال للتردد. إذ ينبغي أن يرجع في تنقيح التقنين المدني المصري إلى مصادر ثلاثة: إلى القانون المقارن، وإلى القضاء المصري، وإلى الشريعة الإسلامية.
فالقانون المقارن يمثل التقدم الحديث لعلم القانون والتشريع، وتتراءى في ثناياه أحدث التطورات القانونية، فيجب إذن أن يكون هو المصدر الأول بين المصادر التي يستمد منها التنقيح. وتستخلص حالة التشريع المقارن من حركة التقنينات العالمية التي أعقبت التقنين الفرنسي، مقاربة له تارة ومجافية له تارة أخرى. وهي حركة بقيت في نشاط طوال القرن التاسع عشر واستمرت في نشاطها منذ فجر القرن العشرين إلى اليوم. فقد ظهر التقنين النمساوي في سنة 1812 عقب التقنين الفرنسي.
ثم ظهرت سلسلة طويلة من التقنينات اللاتينية خلال القرن التاسع عشر، نسجت جميعها على منوال التقنين الفرنسي. من ذلك التقنين الإيطالي، والتقنين الأسباني، والتقنين البرتغالي، والتقنين الهولندي، وتقنينات دول أمريكا الجنوبية، وتقنين كندا الجنوبية، واستمرت حركة التقنين اللاتيني في القرن العشرين في شيء من الجدة والتطور. فظهر التقنين التونسي، والتقنين المراكشي، والتقنين اللبناني، وظهر فيها بين ذلك المشروع الفرنسي الإيطالي في الالتزامات والعقود وهو خلاصة التقنينات اللاتينية، وقد أدمج أخيراً في التقنين المدني الايطالي الحديث وصار جزءا منه.
والمطلع على هذا المشروع لا يسعه إلا أن يعجب بالجهود الكبيرة التي قام بها واضعوه فقد أكسب التقنينات اللاتينية العتيقة جدة لم تكن لها. ونفخ فيها روح العصر الذي نعيش فيه، وجمع بين البساطة والوضوح مع شيء كثير من الدقة والتحديد. على أن المشروع يكاد يكون محافظاً إذا قيس إلى التقنينات الأخرى، فقد احتفظ بالروح اللاتينية إلى حد جعله يضحى في بعض النواحي التمشي مع روح التقدم الحديثة.
إزاء هذه التقنينات اللاتينية يجب أن توضع التقنينات الجرمانية، وأهمها ثلاثة .. التقنين الألماني، والتقنين النمساوي، والتقنين السويسري.
أما التقنين الألماني فيعد أفخم تقنين صدر في العصر الحديث، وهو خلاصة النظريات العلمية الألمانية مدي قرن كامل. تم تحضير مشروعه الأول سنة 1887، ونشر هذا المشروع رسمياً للاستفتاء، ثم عرض على الهيئة التشريعية واتفقت الحكومة مع الأحزاب السياسية على أن تقتصر الأحزاب على النظر في المسائل السياسية والاجتماعية والدينية، تاركة مسائل الصياغة القانونية كما هي دون تعديل، حتى لا يختل تماسكها، فكان ذلك سببا في السهولة والسرعة اللتين اقترنتا بالموافقة على المشروع، فأصدر في سنة 1896 على أن يعمل به من أول يناير سنة 1900، والتقنين الألماني يبز من الناحية الفقهية أي تقنين آخر، فقد اتبع طريقة تعد من أدق الطرق العلمية، وأقربها إلى المنطق القانوني. ولكن هذا كان عائقاً له عن الانتشار فإن تعقيده الفني ودقته العلمية أقصياه بعض الشيء عن منحى الحياة العملية وجعلاه مغلق التركيب عسر الفهم.
والتقنين النمساوي يرجع عهده إلى أوائل القرن التاسع عشر، فقد ظهر في سنة 1812 عقب التقنين الفرنسي، ولكنه لم يتح له من النجاح ما أتيح لهذا التقنين. لذلك بقي محدود الانتشار في أوروبا حتى غمره التقنين الألماني وقد قام النمساويون بتنقيح تقنينهم في أول سني الحرب العالمية الأولى، وظهر التنقيح في سنة 1916، فأعاد لهذا التقنين العتيق شيئاً من الجدة المسايرة لروح العصر. ولكنه لم يكن تنقيحاً شاملاً، بل استبقى التقنين القديم بعد إدخال بعض تعديلات جزئية تناثرت متفرقة بين نصوصه المختلفة، فلم يكن للتنقيح أثر كبير في انتشاره.
بقي من التقنينات الجرمانية التقنين السويسري وهو تقنينان لا تقنين واحد، أحدهما في الالتزامات والعقود، والآخر فيما بقي بعد ذلك من أقسام القانون المدني. والسبب في هذا الازدواج اعتبارات دستورية يضيق المقام عن ذكرها. ويمتاز التقنين السويسري بالوضوح والبساطة. فيتغاير بهذا عن التقنين الألماني المغلق. وهو يجمع إلى الوضوح والبساطة الدقة والتعمق، ثم يضم إلى ذلك الجدة والتمشي مع أحدث النظريات العلمية. ففيه تجتمع مزايا التقنين الألماني من حيث القيمة الفنية، ومزايا التقنين الفرنسي من حيث السلاسة والوضوح. على أن هذا الوضوح خداع في بعض الأحيان، فإن كثيراً من النصوص في التقنين السويسري يبدو لأول وهلة سهل الفهم قريب المأخذ، فإذا ما محص النص وأمعن النظر فيه بدا الإبهام والنقص وظهرت الحاجة إلى الدقة والتحديد، وتبين أن الوضوح في صياغة النصوص التشريعية قد ينقلب غموضاً عند تطبيق هذه النصوص.
إلى جانب التقنينات اللاتينية والتقنينات الجرمانية ظهر في خلال القرن العشرين طائفة من التقنينات المتخيرة لا تنحاز إلى إحدى المدرستين انحيازا مطلقاً، بل تتخير، فتأخذ من كل مدرسة بالذي هو أحسن، وعلى رأس هذه التقنينات التقنين البولوني في الالتزامات والعقود، وقد جمع هذا التقنين بين مزايا التقنينات اللاتينية في الوضوح والسلاسة ومزايا التقنينات الجرمانية في الدقة والتعمق، ويمكن أن يذكر مع التقنين البولوني من التقنينات المتخيرة التقنين الياباني وقد صدر في سنة 1896، والتقنين البرازيلي وقد صدر في سنة 1916 وتقنين السوفييت وقد صدر في سنة 1923 والتقنين الصيني وقد صدر في سنتي 1929 و1930.
من كل هذه التقنينات المختلفة النزعة المتباينة المناحي، ويبلغ عددها نحو 20 تقنيناً استمد المشروع ما اشتمل عليه من النصوص، ولم يوضع نص إلا بعد أن فحصت النصوص المقابلة في كل هذه التقنينات المختلفة ودقق النظر فيها، واختير منها أكثرها صلاحية حتى ليجوز القول بأن المشروع يمثل من ناحية حركة التقنين العالمية نموذجاً دولياً يصح أن يكون نواه لتوحيد الكثير من التقنينات المدنية.
أما القضاء المصري فقد استغل إلي حد كبير فيما تم من عمل التنقيح لأنه لا يكفي أن يكون المشروع نموذجاً دولياً، بل يجب أيضاً أن يكون متفقاً مع حاجات البلد، والقضاء هو خير معبر عن هذه الحاجات وقد كانت مهمة القضاء المصري بنوع خاص شاقة عسيرة، إذ كان مطلوباً منه أن يمصر قانوناً أجنبيا دخل البلاد بين يوم وليلة، فقام بعمله في كثير من اللباقة والمهارة، لذلك كان في الاستطاعة أن يستخلص منه كثير من الدروس النافعة. ويكفي أن يذكر هنا على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر بعض الأحكام التي استمدها المشروع من القضاء المصري، واقتصر فيها على تقنين هذا القضاء وتسجيله.
فهناك موضوعات كاملة أخذت فيها أحكام القضاء. من ذلك الملكية الشائعة، ولا يكاد يوجد في التقنين الحالي نص تشريعي في هذا النوع من الملكية، على أهميته وانتشاره في مصر، وقد تكفل القضاء المصري بتفصيل أحكامه وقنن المشروع المبادئ التي قررها القضاء في هذا الشأن ومن ذلك قسمة المهايأة، تولى القضاء بيان أحكامها، وعن القضاء أخذ المشروع هذه الأحكام، ودعمها بنصوص استوحاها من عادات البيئة المصرية، ومن ذلك الحراسة والحكر وحقوق الارتفاق، والتزامات الجوار، تولاها القضاء جميعا بالتنظيم المفصل، وقنن المشروع ما قرره القضاء بشأنها من أحكام ومبادئ.
وإلى جانب تقنين المشروع للقضاء المصري في موضوعات كاملة، قنن أيضاً هذا القضاء في كثير من المسائل التفصيلية الهامة، ويضيق المقام عن إيراد ما كان يصح إيراده من الأمثلة المتنوعة في هذا الصدد، فيكفي الإشارة إلى قليل من هذه المسائل.
قنن المشروع القضاء المصري في التعاقد بالمراسلة وفى الحالات التي يعتبر فيها سكوت المتعاقد قبولاً، وفي تحديد الأجل إذا اشترط أن يكون الدفع عند المقدرة أو عند الميسرة، وفي جواز تخفيض الشرط الجزائي، وفي عدم جواز تخفيض أجر الوكيل إذا دفع هذا الأجر طوعاً بعد تنفيذ الوكالة، وفي ضمان العيوب الخفية في الإيجار، وفي جعل الريع المستحق في ذمة الحائز سيء النية والديون الثابتة في ذمة ناظر الوقف للمستحقين تتقادم بخمس عشرة سنة لا بخمس سنوات، وفى الهبات والوصايا التي تصدر من المورث لورثته مخفية تحت ستار البيع، وفي بدء سريان التقادم في دعوى ضمان الاستحقاق، وفي اعتبار رهن الحيازة في يد الدائن قاطعاً للتقادم، وفي رجوع حائز العقار المرهون إذا وفى كل الدين على الحائزين الآخرين، وفي انتقال الشفعة بالميراث، وفي غير ذلك من المسائل الكثيرة التي توجد متناثرة في جميع نواحي المشروع.
بقيت الشريعة الإسلامية كمصدر من المصادر التي استند إليها المشروع وقد استمد منها كثيراً من نظرياتها العامة وكثيراً من أحكامها التفصيلية.
وقبل هذا وذاك أدخل المشروع في شأن الشريعة الإسلامية تجديداً خطيراً فقد جعلها من بين المصادر الرسمية للقانون المصري إذا لم يجد القاضي نصاً تشريعياً يمكن تطبيقه، والفروض التي لا يعثر فيها القاضي على نص في التشريع ليست قليلة، فسيرجع القضاء إذن للشريعة الإسلامية يستلهم مبادئها في كثير من الأقضية، وفي هذا فتح عظيم للشريعة الغراء، لا سيما إذا لوحظ أن ما ورد في المشروع من نصوص هو أيضاً يمكن تخريجه على أحكام الشريعة الإسلامية دون كبير مشقة. فسواء وجد النص أم لم يوجد، فإن القاضي في أحكامه بين اثنتين، إما أنه يطبق أحكاما لا تتناقض مع مبادئ الشريعة الإسلامية، وإما أنه يطبق أحكام الشريعة ذاتها.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أخذ المشروع كما سبق القول بنظريات عامة في الشريعة الإسلامية وبأحكام تفصيلية.
وأهم ما اقتبسه من النظريات العامة هو هذه النزعة المادية أو الموضوعية التي تميز الفقه الإسلامي. كما أخذ بنظرية التعسف في استعمال الحق، وبمسئولية عديم التمييز، وبحوالة الدين، وبمبدأ الحوادث غير المتوقعة. ويكفي إيراد كلمة موجزة عن كل من هذه المسائل.
أما عن النزعة المادية، فإنه يمكن تقسيم الشرائع إلى قوانين تتغلب فيها النزعة النفسية أو الشخصية tendance subjective وهذه هي الشرائع اللاتينية بوجه عام، وأخرى تتغلب فيها النزعة المادية أو الموضوعية tendance objective وهذه هي الشرائع الجرمانية. ويختلف هذان النوعان من الشرائع، أحدهما عن الآخر، في نظرته إلى النظم القانونية. فالشرائع ذات النزعة النفسية تغلب في الالتزام عنصره الشخصي دون موضوعه المادي، وتنظر في العقد إلى الإرادة الباطنة النفسية دون الإرادة الظاهرة المادية، وتضع معايير نفسية تعتبر فيها النية المستترة لا معايير مادية يعتبر فيها العرف وما ألفته الناس في التعامل. وتجري الشرائع ذات النزعة المادية على العكس من ذلك فتغلب في الالتزام موضوعه المادي، وتنظر في العقد إلى الإرادة الظاهرة، وتضع معايير مادية تقف فيها عند العرف المألوف. والنزعة المادية في القانون دليل على تقدمه، إذ يكشف بهذه النزعة عن شدة حرصه على ثبات المعاملات واستقرارها. فإذا أردنا تحديد نزعة للشريعة الإسلامية، فهذه النزعة لا شك مادية. وإذا كانت العبرة في هذه الشريعة بالمعاني دون الألفاظ، إلا أن المعاني التي تقف عندها هي التي تستخلص من الألفاظ، لا من النيات المستكنة في الضمير. فالعبرة فيها بالإرادة الظاهرة لا بالإرادة الباطنة. ومن هنا يدقق الفقهاء في كثير من المواطن في تحديد معاني الألفاظ، ويرتبون على اختلافها اختلافاً في الحكم. وهم ليسوا متنطعين يضحون المعنى للفظ كما قد يتوهم البعض، بل هم يقفون عند الإرادة الظاهرة التي يكشف عنها اللفظ المستعمل حفظا لثبات التعامل واستقراره. كذلك معايير الشريعة الإسلامية فهي معايير مادية، تنزل عند المألوف في التعامل والمتعارف بين الناس والمشروع يقتفي أثر الشريعة الإسلامية في كل ذك، فيتميز بنزعة مادية واضحة، يظهر هذا في كثير من المعايير التي يأخذ بها، وفى نظرته للالتزام حيث يراه عنصراً ماليا أكثر منه رابطة شخصية، وفي نظرته للعقد حيث يأخذ في كثير من الفروض بالإرادة الظاهرة دون الإرادة الباطنة.
وقد أخذ المشروع أيضاً عن الشريعة الإسلامية نظرية التعسف في استعمال الحق، وهي نظرية تقررها الشريعة في أوسع مدى ولا تقتصر فيها على المعيار النفسي الذي اقتصرت عليه أكثر القوانين، بل تضم إليه معيارا ماديا، إذ تقيد كل حق بالأغراض الاجتماعية والاقتصادية التي قرر من أجلها. وقد أخذ المشروع بهذه الأحكام . فقرر المبدأ بمعياريه النفسي والمادي، وأورد له تطبيقات كثيرة اقتبسها هو أيضاً من الشريعة الإسلامية. ومسئولية عديم التمييز تأخذ بها التقنينات الجرمانية دون التقنينات اللاتينية، فأخذ المشروع بما ذهبت إليه التقنينات الجرمانية لأنها هي التي تتفق مع الشريعة الإسلامية. وكذلك الأمر في حوالة الدين، تغفلها التقنينات اللاتينية وتنظمها التقنينات الجرمانية متفقة في ذلك مع الشريعة الإسلامية، وقد أخذ المشروع بها إتباعا للشريعة، ومبدأ الحوادث غير المتوقعة Principe de I imprevision أخذ به القضاء الإداري في فرنسا دون القضاء المدني، فرجح المشروع الأخذ به استناداً إلي نظرية الضرورة في الشريعة الإسلامية.
وهناك أحكام تفصيلية كثيرة اقتبسها المشروع من الفقه الإسلامي، يكفي هنا مجرد الإشارة إلى بعضها. من ذلك الأحكام الخاصة بمجلس العقد، وإيجار الوقف، والحكر، وإيجار الأراضي الزراعية، وهلاك الزرع في العين المؤجرة، وانقضاء الإيجار بموت المستأجر، وفسخه بالعذر، ووقوع الإبراء من الدين بإرادة منفردة، هذا إلى مسائل أخرى كثيرة سبق أن اقتبسها التقنين الحالي من الشريعة الإسلامية وجاراه المشروع في ذلك، كبيع المريض مرض الموت، والغبن، وخيار الرؤية، وتبعة الهلاك في المبيع، وغرس الأشجار في العين المؤجرة، والأحكام المتعلقة بالعلو والسفل، وبالحائط المشترك، ومدة التقادم. أما الأهلية والهبة والشفعة، وأما المبدأ القاضي بألا تركة إلا بعد سداد الدين، فهذه كلها موضوعات على جانب كبير من الأهمية، وقد أخذت برمتها من الشريعة الإسلامية.
ولم يكن ترتيب المشروع بالأمر الهين، إذ كان ينبغي التفكير في ترتيب يماشي الحركة العلمية، ولا يتجافى مع الحقائق العملية، ويستنير في الوقت ذاته بترتيب التقنينات الحديثة التي صدرت في خلال القرن العشرين، مع المحافظة بقدر الإمكان على الترتيب الذي اتبعه التقنين الحالي. وقد توخى المشروع أن يرتب المسائل ترتيباً منطقياً تتسلسل الفكرة فيه، فيسهل على الباحث أن يدرك ما بين المسائل المختلفة من ارتباط، وما ينتظمها جميعاً من تناسق، وهذا هو سبب ما اتبع في ترتيب الأحكام من تقسيم وتبويب وتفريغ، ولم يكن المشروع مبتدعاً في ذلك، بل كان مقتفياً أثر أحدث التقنينات وأكثرها ذيوعا وانتشاراً.
أما عن وجوه التنقيح فيكفي القول إجمالاً أن المشروع قد أدخل موضوعات جديدة، واستوفى موضوعات ناقصة، وعالج عيوباً متفشية ومن ذلك:
1- تجنب المشروع ما وقع فيه التقنين الألماني من التعقيد والغموض بأن تحاشى الفصل ما بين موضوع العقد وموضوع العمل القانوني. وبذلك دلل على نزعة عملية تفضل النزعة التجريدية الفقهية التي اصطبغ بها التقنين الألماني. وخصص بابا لآثار الالتزام تجنب فيه كثيراً من أسباب التشويش والخلط مما وقعت فيه التقنينات الأخرى.
2- استوفى المشروع موضوعات هي في التقنين الحالي شديدة الاقتضاب على أهميتها، وأصلح كثيراً من عيوب التقنين الحالي فيها. وذلك كالقواعد المتعلقة بتكوين العقد، والدعوى البوليصية والاشتراط لمصلحة الغير، والمسئولية التعاقدية، والمسئولية التقصيرية، والحراسة والملكية الشائعة، وملكية الطبقات، ورهن الحيازة، وحق الاختصاص.
3- رسم المشروع الخطوط الرئيسية لموضوعات هي في التقنين الحالي متناثرة في جميع نواحيه دون ترتيب أو تنسيق، فجمع المشروع بين أطرافها وعرضها جملة واحدة، بحيث يتكشف ما بين أجزائها من صلات، وما يربطها جميعا من وحدة في النظر، من ذلك موضوع الحيازة، وحقوق الارتفاق، وحقوق الامتياز، والحق في الحبس، والدفع بعدم تنفيذ العقد، والنيابة في التعاقد.
4- أوجد المشروع من الموضوعات الجديدة ما كان ينقص التقنين الحالي أشد النقص. من ذلك القواعد المتعلقة بتنازع القوانين، والشخصية المعنوية، وحوالة الدين، وعقود المنفعة العامة، وعقد العمل، وعقد التأمين، وعقد الهبة، والحكر، وإيجار الوقف. والموضوعان الجديدان الجديران بأن ينوه بهما تنويها خاصاً هما تنظيم الإعسار وتصفية التركات.
أما الاتجاهات العامة التي رسمت للمشروع فأهمها ثلاثة:
أولهما أن المشروع من ناحية صياغته الفنية ذو نزعة مادية متخيرة. ومعنى ذلك أنه كما سبق القول يتخير بين النزعتين المادية والنفسية مع ميل إلى النزعة المادية، إيثاراً لاستقرار التعامل. فهو من هذه الناحية يصطبغ بصبغة عملية واضحة.
والاتجاه الرئيسي الثاني أن المشروع من ناحية سياسته التشريعية يترك للقاضي حرية واسعة في التقدير يواجه بها تباين الظروف فيما يعرض له من الأقضية. وهذا أدنى إلى تحقيق العدالة. فلا يحسبن أحد أن القاضي الذي يحد من تقديره قواعد جامدة والذي تغل يده نصوص ضيقة بمستطيع أن يكيف الأحكام القانونية بحيث تصلح للتطبيق العادل في الظروف المتغايرة فهو بين أن يؤدي العدالة الحقة فيكسر من أغلال القانون أو يلتزم حدود القانون فلا يؤدي إلا عدالة حسابية شكلية.
وقد أصبح الآن ثابتاً أن القواعد القانونية الجامدة لا تلبث أن تنكسر تحت ضغط الحاجيات العملية وخير منها المعايير المرنة التي تتسع لما يجد من الحوادث وما تتكشف عنه حركة التطور المستمر.
والاتجاه الرئيسي الأخير أن المشروع من ناحية ما يقوم عليه من أسس اجتماعية واقتصادية إنما يجاري نزعات عصره فلا يقف من الديمقراطية عند معناها القديم بل يماشي ما لحق بها من تطورات عميقة ستكون الآن بعد أن وضعت الحرب أوزارها أبعد مدى وأبلغ أثراً. فالمشروع لا يقدس حرية الفرد إلى حد أن يضحي من أجلها بمصلحة الجماعة ولا يجعل من سلطان الإرادة المحور الذي تدور عليه الروابط القانونية بل هو يوفق ما بين حرية الفرد ومصلحة الجماعة. ثم هو بين الفرد والفرد لا يترك القوي يصرع الضعيف بدعوى وجوب احترام الحرية الشخصية فليس الفرد حراً في أن يتخذ مما هيأته له النظم الاجتماعية والاقتصادية من قوة تكئة ليتعسف ويتحكم لذلك يقف المشروع إلى جانب الضعيف فيحميه كما فعل في عقود الإذعان عندما جعل تفسير ما تشتمل عليه من شروط تعسفية محلاً لتقدير القاضي وكما فعل في النصوص الخاصة بالاستغلال عندما أوجب على القاضي أن يتدخل لنصرة المتعاقد إذا استغلت حاجته أو طيشه أو عدم خبرته أو ضعف إدراكه وكما فعل في حماية العامل عندما أحاط عقد العمل بسلسلة قوية من الضمانات تدرأ عنه تعسف رب العمل. وهو إلى كل هذا وقبل كل هذا يضع مبدأ عاماً ينهى فيه عن التعسف في استعمال الحق. ويبدو المشروع كذلك ظاهر الرفق بالمدين فهو يقيد من حق الدائن في التنفيذ ويلزمه أن يبدأ بالمال الذي يكون بيعه أقل كلفة على المدين ويعالج عيوب حق الاختصاص فلا يجعل هذا الحق غلا في يد المدين لا يستطيع فكاكه بل يرسم طريقة لإنقاصه إما بقصره على جزء من العقار الذي سبق أن وقع عليه أو بنقله إلى عقار آخر تكون قيمته كافية لضمان الدين. ويوجب على القاضي أن يتدخل لحماية المدين المرهق إذا طرأت حوادث استثنائية لا يمكن توقعها وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي صار مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة فواجب القاضي إذ ذاك أن يوازن بين مصلحة المتعاقدين وأن ينقص الالتزام المرهق إلى الحد المعقول.
هذا إلى نصوص أخرى كثيرة متناثرة في نواحي المشروع تحمي المدين وتقيه شر تعسف الدائن. ويقيد المشروع أخيراً من حق الملكية فيجعل لهذا الحق وظيفة اجتماعية لا يجوز أن ينحرف عنها المالك. فهو في أول نص يعرف فيه الملكية يقرر أن لمالك الشيء ما دام ملتزماً حدود القانون أن يستعمله وأن ينتفع به وأن يتصرف فيه دون أي تدخل من جانب الغير بشرط أن يكون ذلك متفقاً مع ما لحق الملكية من وظيفة اجتماعية. ثم يورد بعد ذلك من التطبيقات ما يؤكد هذا المعنى ويقويه فالمالك لا يجوز له أن يغلو في استعمال حقه إلى حد يضر بملك الجار. بل يجيز المشروع أن يتدخل الغير في انتفاع المالك بملكه إذا كان هذا التدخل ضرورياً لتوقي ضرر هو أشد كثيراً من الضرر الذي يصيب المالك ما دام هذا يحصل على التعويض الكافي. فحيث يتعارض حق المالك مع مصلحة عامة بل ومع مصلحة خاصة هي أولى بالحماية فالمشروع يقيد من حق الملكية رعاية للمصالح المشروعة وتحقيقاً لمبدأ التضامن الاجتماعي.
كل هذا دون غلو ولا إسراف. فلا تزال حرية الفرد وسلطان الإرادة وحقوق الدائنين واحترام الملكية محلاً لنصوص كثيرة في المشروع تلمح فيها أثراً ظاهراً للتوفيق ما بين حقوق الفرد وحقوق الجماعة. وبذلك يكون المشروع قد سجل بأمانة ما تمخض عنه القرن العشرون من مبادئ مقررة في العدل الاجتماعي، فهو يحمل طابعاً قوياً من حضارة العصر ومدنية الجيل.